سورة الزمر - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الزمر)


        


قلت: {مثلاً}: مفعول ثان لضرب، و{رجلاً}: مفعول أول، وأُخِّرَ للتشويق إليه ليصل بما وصف به، وقيل: بدل من {مثلاً}، و{فيه}: خبر، و {شركاء}: مبتدأ، والجملة: صفة لرجل، و {مثلاً}: تمييز.
يقول الحق جلّ جلاله: {ضَرَبَ اللهُ مثلاً} للمشرك والموحد، {رجلاً فيه شركاءُ مُتَشَاكِسُون}: مختلفون متخاصمون عسيرون، وهو المشرك، {ورجلاً سلماً} أي: خالصاً {لرجل} فرد، ليس لغيره عليه سبيل. والمعنى: جعل الله مثلاً للمشرك حسبما يقوده إليه مذهبه، من ادعاء كل من معبوديه عبوديتَه، عبداً يتشارك فيه جماعة، يتجاذبونه في مهماته المتباينة في تحيُّره وتعبه، ومثلاً آخر للموحّد، وهو عبد خالص لرجل واحد؛ فإنه يكون عند سيده أحظى، وبه أرفق.
{هل يستويان مثلاً}: إنكار واستبعاد لاستوائهما، وإيذان بأن ذلك من الجلاء والظهور، بحيث لا يقدر أحد أن يتفوّه باستوائهما؛ ضرورة أن أحدهما في أعلى عليين، والآخر في أسفل سافلين.
وقرأ نافع وابن عامر والكوفيون {سَلَماً} بفتحتين، وهو مصدر، من: سلم له كذا: إذا خلُص، نُعت به للمبالغة، فالقراءتان متفقتان معنى. والمراد من المثَل: تصوير استراحة الموحد وانجماعِه على معبوده، وتعب المشرك وتشتيت باله، وخصوصاً مع فرض التعاكس من الشركاء، فيصير متحيراً، وفي عنت كبير من الجمع بين أغراضهم، بل ربما يتعذر ذلك ويستحيل؛ للتضاد في الأغراض والتناقض، مع فرض التخالف والتنازع بينهم، واعتبر ذلك بحال الوالدين، إذا اختلفا على الولد، فإنه يعسر إرضاؤهُما إلا بمشقة واحتيال، وكذلك عابد الأوثان؛ فإنه معذَّب الفكر بها، وبحراسة حاله منها، ومتى توهم أنه أرضى واحداً في زعمه تفكر فيما يصنع مع الآخر، فهو أبداً في تعب وضلال، وكذلك هو المصانع للناس، الممتحن بخدمة الملوك. قاله ابن عطية.
والحاصل: أن إرضاء الواحد أسهل وأيسر من إرضاء الجماعة.
{الحمد لله} على عدم استوائهما. قال الطيبي: ثم إذا لزمتهم الحجة قل: الحمد لله، شكراً على ما أولاك من النصرة، وقهر الأعداء بالحجج الساطعة. وفيه تنبيه للموحدين على أن ما لهم من المزية، وعلو الرتبة، بتوفيق الله تعالى، وأنه مِنَّة جليلة، موجبة عليهم أن يداوموا على حمده وعبادته، أو: حيث ضرب لهم المثل الأعلى، وللمشركين المثال السوء، فهذا صنع جميل، ولُطف تام، مستوجب لحمده وشكره؛ {بل أكثرُهُم} أي: المشركون {لا يعلمون} ذلك، مع كمال ظهوره، فيقعون في ورطة الشرك والضلال، وهو انتقال من بيان الاستواء على الوجه المذكور، إلى بيان عدم علمهم ذلك، مع غاية ظهوره.
ثم ذكر المحل الذي يظهر فيه عدم استوائهما عياناً، وهو ما بعد الموت، فقال: {إِنك مَيِّت وإِنهم ميتون}، فتجتمعون عندنا، فنحكم بينكم. وقيل: كانوا يتربّصون برسول الله صلى الله عليه وسلم موته، أي: إنكم جميعاً بصدد الموت، {ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تَخْتصمون}.
فتحتجّ عليهم بأنك بلّغت الرسالة، واجتهدت في الدعوة، فتلزمهم الحجة؛ لأنهم قد لجُّوا في العناد، فإذا اعتذروا بتقليد آبائهم لم يُقبل عذرهم. وقيل: المراد: الاختصام فيما دار بينهم في الدنيا. والأول أنسب.
الإشارة: لا يستوي القلب المشترك مع القلب المفرد الخالص لله، القلب المشترك تفرّقت همومه، وتشتت أنواره، بتشتيت شواغِله وعلائقه، وتفرّقت محبته، بتفرُّق أهوائه وحظوظه، والقلب المفرد اجتمعت محبته، وتوفرت أنواره وأسراره بقدر تفرُّغه من شواغله وعلائقه. وفي الحِكَم: (كما لا يحب العمل المشترك، لا يحب القلب المشترك، العمل المشترك لا يقبله، والقلب المشترك لا يُقبل عليه). وقال أيضاً: فرِّغ قلبك من الأغيار تملؤه بالمعارف والأسرار.
وقيل: للجنيد: كيف السبيل إلى الوصول؟ فقال: بتوبة تزيل الإصرار، وخوف يقطع التسويف، ورجاء يبعث على مسالك العمل، وبإهانة النفس، بقربها من الأجل، وبُعدها من الأمل. قيل له: وبمَ يتوصل إلى هذا؟ فقال: بقلب مفرد، فيه توحيد مجرد. اهـ.
وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مَن جعل الهموم هَمّاً واحداً أي: وهو الله كفاه اللهُ همَّ دنياه، ومَن تشعبت به الهمومُ لم يُبالِ اللهُ به في أيِّ أوديةِ الدنيا هَلَكَ» وقال صلى الله عليه وسلم: «مَن كانت الدنيا هَمَّهُ فرّق الله عليه أمره، وجعل فقرَه بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما قُسم له، ومَن كانت الآخرة نيته، جمع الله عليه أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي صاغرة» ومَن كان الله همُّه بفنائه فيه؛ جمع الله عليه سره، وأغناه به عما سواه، وخدمه الوجود بأسره، «أنت مع الأكوان ما لم تشهد المكون، فإذا شَهِدت المكون كانت الأكوانُ معك». والله تعالى أعلم.


يقول الحق جلّ جلاله: {فمَن أظلمُ ممن كَذَبَ على الله} بأن أضاف إليه الشريك والولد، فإنه لا أحد أظلم منه؛ إذ هو أظلم من كل ظالم. {وكذَّب بالصِّدق} أي: الأمر الذي هو نفس الصدق وعين الحق، وهو ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من عند الله {إِذْ جاءه} أي: كذَّب في أول مجيئه، من غير تأمُّل فيه ولا تدبُّر، {أليس في جهنم مَثْوىً للكافرين}؟ أي: لهؤلاء الذين افتروا على الله، وسارعوا إلى التكذيب بالصدق، فأظهر موضع الإضمار تسجيلاً وإيذاناً بعلة الحكم الذي استحقوا به جهنم، والجمع باعتبار معنى {مَن}. كما أن الإفراد في الضمائر السابقة باعتبار لفظها، أو: لجنس الكفرة، وهم داخلون في الكفر دخولاً أولياً.
{والذي جاء بالصدقِ} وهو محمد صلى الله عليه وسلم {وصدَّق به}: وهم المؤمنون، أي: والفوج، أو: الفريق الذي جاء بالصدق، والفريق الذي صدّق به. {أولئك هم المتقون}: المنعوتون بالتقى، التي هي أجلّ الرغائب.
وقرىء {صَدَقَ} بالتخفيف، أي: صدق به الناس، فأدَّاه إليهم كما أنزل عليه، من غير تغيير، وقيل: صار صادقاً بسببه؛ لأن ما جاء به من القرآن معجزة دالة على صدقه صلى الله عليه وسلم.
{لهم ما يشاؤون عند ربهم}: هو بيان لِما لهم في الآخرة من حسن المآب، بعد بيان ما لهم في الدنيا من محاسن الأعمال، أي: لهم ما يشاؤونه من جلب المنافع ودفع المضار، وتوالي المسار في الآخرة، لا في الجنة فقط؛ لأن بعض ما يشاؤون يقع قبل دخول الجنة، من تكفير السيئات، والأمن من الفزع الأكبر، وسائر أهوال القيامة. {ذلك} الذي ذكر من حصول كل ما يشاؤونه {جزاءُ المحسنين} أي: الذين أحسنوا أعمالهم في الدنيا.
{لِيُكَفِّر الله عنهم أَسْوَأَ الذي عَمِلُوا}، اللام متعلق بقوله: {لهم ما يشاؤون}؛ لأنه في معنى الوعد، كأنه قيل: وعد الله لهم جميع ما يشاؤونه من دفع المضار وحصول المسار؛ ليكفر عنهم بموجب ذلك الوعد أسوأ الذي عملوا، أي: أقبحه وأعظمه، وأولى أصغره. وقيل: يتعلق بمحذوف، أي: يسر لهم الصدق والتصديق ليكفر... إلخ. {ويجْزِيَهم أجْرَهُم بأحسنِ الذي كانوا يعملون} فإذا كان في عملهم حسن وأحسنُ منه، جزاهم بجزاء الأحسن على الجميع، تكرُّماً منه وإحساناً.
والحاصل: أنه سبحانه لكرمه يُكفر السيىء والأسوأ بالأحروية، ويجزي على الحسن بجزاء الأحسن منه والأرجح، كمَن أهدى لملك هديتين؛ صغيرة وكبيرة، فكافأه على الصغيرة بقدر ما كافأه على الكبيرة. قال القشيري: وأحسن أعمال المؤمن: الإيمان والمعرفة، فيكون على أحسن الأعمال أحسن الثواب، وهو الرؤية. اهـ.
وإظهار اسم الجليل في موضع الإضمار، لإبراز كمال الاعتناء بمضمون الكلام، والجمع بين الماضي والمستقبل في صلة الموصول الثاني أي: الذي كانوا يعملون دون الأول؛ للإيذان باستمرارهم على الأعمال الصالحة، بخلاف السيئة.
الإشارة: كل مَن ادعى حالاً مع الله، وليست متحققة فيه، فقد كذب على الله، وكل مَن أنكرعلى أولياء زمانه فقد كذّب بالصدق إذ جاءه. {والذي جاء بالصدق}، وهو مَن أَذِن له في التذكير أو التربية. {وصدّق به}، وهو مَن سمع وتبع، أولئك هم المتقون، دون غيرهم، لهم ما يتمنون عند ربهم في الدنيا والآخرة، ذلك جزاء أهل مقام الإحسان، الذين يعبدونه على العيان، يُغطي وصفهم بوصفه، ونعتهم بنعته، فيوصلهم بما منه إليهم، لا بما منهم إليه، ثم يكفيهم جميع الشرور.


يقول الحق جلّ جلاله: {أليس اللهُ بكافٍ عَبْدَه} أي: نبيه صلى الله عليه وسلم. نزلت تقوية لقلبه عليه السلام، وإزالة للخوف الذي كان الكفار يخوفونه، أو: جنس العبد، فيشمل الأنبياء كلهم والمؤمنين، وينتظم فيه النبي صلى الله عليه وسلم انتظاماً أولياً، ويُؤيده قراءة الأخويْن بالجمع. وهو إنكار ونفي لعدم كفايته تعالى على أبلغ وجه وآكده، كأنَّ الكفاية بلغت من الظهور ما لا يقدر أحد على أن يتفوّه بعدمها، أو يتلعثم في الجواب بوجودها، وإذا علم العبدُ أن الحق تعالى قائم بكفايته، سكن قلبه واطمأن، وأسقط الأحمال والكُلَف عن ظهره، فلا جرم أن الله يكفيه ما أهمّه، ويؤمّنه مما يخافه، كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {ويُخوفونك بالذين من دُونه} أي: الأوثان التي اتخذوها آلهة دونه تعالى، وهي جوامد، لا تضر ولا تنفع، وهذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما قالت قريش: إنا نخاف أن تخبُلك آلهتنا، وتُصيبك معرَّتها لعيبك إياها. وفي رواية: قالوا: لتكفنّ عن آلهتنا، أو ليصيبنك منهم خبل أو جنون، كما قال قوم هود: {إِن نَّقٌولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ ءَالِهَتِنَا بِسُوءٍ} [هود: 54]. وجملة: {ويخوفونك}: استئناف، أو: حال. {ومَن يُضلِلِ اللهُ} حتى غفل عن كفايته وعصمته صلى الله عليه وسلم، أو: اعتقد أن الأصنام تضر وتنفع؛ {فما له من هادٍ} يهديه إلى ما يرشده.
{ومَن يهدِ اللهُ} إلى توحيده وطاعته {فما له من مُضلٍّ} يصرفه عن رشده، أو يصيبه سوء يخل بسلوكه؛ إذ لا راد لفعله، ولا معارض لقضائه، كما ينطقُ به قوله تعالى: {أليسَ اللهُ بعزيزٍ}: غالب لا يغالَب، منيع لا يمانَع ولا ينازَع، {ذي انتقامٍ} من أعدائه لأوليائه، بإعزاز أوليائه وإذلال أعدائه. وإظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتحقيق مضمون الكلام، وتربية المهابة. والله تعالى أعلم.
الإشارة: إذا عَلِمَ العبدُ أن الله كاف جميع عباده، وثق بضمانه، فاستراح من تعبه، وأزال الهموم والأكدار عن قلبه، فيدخل جنة الرضا والتسليم، ويهب عليه من روح الوصال وريحان الجمال نسيم، فيكتفي بالله، ويقنع بعلم الله، ويثق بضمانه.
قال في لطائف المنن: مبنى الوليّ على الاكتفاء بالله، والقناعة بعلمه، والاغتناء بشهوده. قال تعالى: {أليس الله بكافٍ عبده} وقال تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت: 53]. اهـ. وقال الشيخ أبو الحسن صلى الله عليه وسلم: يقول الله عزّ وجل: عبدي اجعلني مكان همك أكفك همك، عبدي؛ ما كنت بك فأنت في محل البُعد، وما كنت بي فأنت في محل القُرب، فاختر لنفسك. اهـ. أي: ما دمت مهموماً بنفسك فأنت في محل البُعد، وإذا خرجت عنها، وطرحتها بين يدي خالقها، أو غبت عن وجودها بالكلية، فأنت في محل القُرب، الأول: قُرب مراقبة، والثاني: قُرب مشاهدة.
وقوله تعالى: {ويُخوفونك بالذين من دونه}: هو عام في كل ما يُخاف منه، فالعارف لا يخاف من شيء؛ لعلمه بأن الله ليس معه شيء، ولا يقع في الوجود إلا قدره وقضاؤه، ومَن يعتقد غير هذا فهو ضال، ومَن يُضلل الله فلا هادي له. وبالله التوفيق.

2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9